حفلة التفاهة :
مجددا، يأتي كونديرا على ما تبقى عندي من بقايا تعريف الرواية التقليدية. ويؤكد بأن خضوع الرواية لقاعدة وحدة الحدث ما هو الا مقصلة لفن الرواية نفسه.
إن أية محاولة للحديث عن رواية حفلة التفاهة قد تبوء بالفشل، لان الاحداث سرابية يصعب ترتيبها في جمل. فكما تمكّن من ان يجعل احداث وشخصيات "كتاب الضحك و النسيان" قابلة للنسيان بسرعة. يتمكن مجددا هنا في "حفلة التفاهة" من ان جعل الاحداث تنبثق من جوهر التفاهة نفسه لدرجة يصعب معها الحديث عن الأحداث/اللاأحداث.
بعد توقف عن الكتابة دام ل14عاما يعود ميلان كونديرا سنة 2014 برواية "حفلة التفاهة" الصغيرة الحجم (110ص). وربما تكون الرواية الوحيدة التي لم يأت فيها ذكر التشيك من قريب او من بعيد. أهذا يعني أن الكاتب التشيكي الأصل اعتنق الثقافة الفرنسية بالكامل خلال الأربعة عشر سنة التي خلت؟ أم أنه يرى أن التشيك وتاريخ التشيك لا يمكن حشره في رواية تحتفل بالتفاهة وتحفل بها؟ هو الذي جعل من قصر الكريملين و ستالين و أصحابه شخوصا مهمة في روايته.
ويمكن حصر ثيمات حفلة التفاهة في اثنتين:
-أولا : جوهر التفاهة.
من ريشة تحلّق تحت السقف شدّت جميع الأعين إليها، إلى افتتان غريب بالسّرة -ذلك العضو البشري اللاجنسي الذي نملكه جميعا ولا نهتم لوجوده ابدا-، إلى طموح سخيف في الخلود جعل ستالين يغير اسم مدينة كوينغسبير مسقط رأس كانط إلى كالنينغراد على اسم صديقه كالنين رئيس مجلس السوفييت الأعلى، الذي كان يعاني من مشكل في مثانته يجعله يرغب في التبول بشكل مستمر. أهناك أتفَه من هذا؟ وعن التفاهة يقول كونديرا “التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود. إنها معنا على الدوام وفي كل مكان. إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه: في الفظائع، في المعارك الدامية، وفي أسوأ المصائب. وهذا غالبًا ما يتطلب شجاعة للتعرف عليها في ظروف درامية للغاية ولتسميتها باسمها. لكن ليس المقصود التعرف عليها فقط، وإنما يجب أن نحبها، يجب أن نتعلم حب التفاهة”
-ثانيا : رثاء الفكاهة.
من محاسن الصدف انني قرأت كتاب الضحك و النسيان ثم أتبعته بحفلة التفاهة. كلا هذين العملين يشتركان في تعريف الفكاهة فيقول كونديرا " الفكاهة ليست السخرية المثيرة للضحك، بل شيء أكثر عمقا، الفكاهة هي البرق الإلهي الذي يكشف غموض العالم"، "ثمة شيء واحد أفتقده: روح الفكاهة" (الفصل الرابع الجميع يبحثون عن الفكاهة). لذا فعندما لم يستطع رجال ستالين فهم مزحة هذا الاخير بشأن الأربعة وعشرين طيرا من الحجل التي اصطادها ستالين على دفعتين (لأنه كان يحمل اثني عشرة طلقة فقط، اصطاد ١٢ ثم عاد لشحن بندقيته وعاد ليجد الحجلات المتبقية في مكانها واصطادها كذلك) في تلك اللحظة التي لم يفهم فيها رجال ستالين المزحة ولم يضحكوا. بل اتهموه بالكذب وهم مختفون في الحمام. يعلن كونديرا أنها مرحلة مفصلية لبداية "عصر أفول الفكاهات، عصر ما بعد المزحات".
ولا يمكنني ان اتجاوز الحديث عن النزعة العدمية القوية بين صفحات الرواية. فقد تناول كونديرا مسألة الوجود الانساني على لسان خيال أم آلان، أحد أبطال الرواية فكتب “ما تمنيته هو الاختفاء الكلي للبشر مع مستقبلهم وماضيهم، مع بدايتهم ونهايتهم، مع كل فترة وجودهم، مع ذاكرتهم برمتها، مع نيرون ونابليون، مع بوذا والمسيح. تمنيت الفناء الكلي لشجرة متجذرة في بطن صغير بلا سرة لأول امرأة حمقاء لم تكن تعرف ما تفعله، وأي أهوال كلفنا جماعها البائس الذي لم يمنحها أية متعة بالتأكيد…" وهو بهذا يستحضر الفلسفة السيورانية التي تعتبر الوجود الإنساني خطأ وأننا عالقون على هذه الأرض.
في النهاية، ماذا يطلب منا كونديرا أن نفعل الى جانب تعلمنا لحب التفاهة؟ إنه لا يطلب منا فعل شيء لأنه لا يمكننا بأي حال من الأحوال فعل شيء “أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد”. أكرر : علينا ان نتعلم حب التفاهة و ألا نأخذ هذا العالم على محمل الجد!
إرسال تعليق