0

بركاني في سوق عكاظ



وذات عطب في الزمن اختلط فيه الماضي بالحاضر بالمستقبل، قصد شاب بركاني سوق عكاظ، وبينما هو يتجول في أرجائه أبصر فتاة جميلة فوله بها قلبه، ولما سأل أحدهم عنها قال له :
إنها حليمة آخر بنات المحلق الذي مدحه الأعشى فزوج كل بناته بمائة ناقة للبنت،غير أن الشاب لم يكن يملك ناقة ولا جملا، ولكنّه لم ييأس ولم يرجع عن خطبتها، بل أرسل إليها رسوله يطلب منها الزواج خفية عن والدها الطماع...فلمّا رجع إليه الرسول قال له :
أما هي فقد وافقت على الزواج منك دون المائة ناقة ، شريطة أن تكون شاعرا كالأعشى ، حينها تهلّل وجه البركاني وقال له :
إنه من العيب أن تسأل سؤالا كهذا لشخص ينحدر من المستقبل ، أنا أبُ الشعر وسيد الكلمات ولو كنت عكس ذلك لما قصدت سوق عكاظ منتهزا هذا العطب الزمني ، وزد على ذلك هل يوجد في المستقبل إنسان لا يقول الشعر ؟
ثم أمره بالعودة إليها وقد لقنه بيتين من الشعر ليلقيهما على مسامعها ، غير أن حليمة لم يرقها شعره فرفضته على الفور. ولمّا علم البركاني بالرد غاضه الأمر ، فهجاها بقصيدة ميمية مطلعها : " آحليمة هزك الما الما الما إلا متزوجتيش هاد العام......يا جاو خطبوك وڭلتي لا لا لا ڭعدي تشيبي مع لياّم..."
جرت القصيدة في العرب مجرى النار في الهشيم ، وبلغ الخبر المحلق مماّ جعله يوافق على تزويجه ابنته على الفور ، شريطة أن يجاري بعض الشّعراء في قبّة النّابغة الذّبياني في سوق عكّاظ ، قبل البركاني الشّرط ، وذهب إلى الناّبغة فوجد عنده الخنساء ترثي أخاها صخرا ، فلما انتهت ، قال له النابغة بعد أن عرّفه على نفسه :
ما هو أرثى بيت قيل عندكم يا آل المستقبل؟
قال البركاني :
أختي زكيّة حيث قالت ترثي نفسها لمّا أدخل عليها زوجها زوجة ثانية " أراني ميتة لا تڭولو حيّة .... أراني ڭاطعة لياس مالدّنيا.."
فقال له الناّبغة : أهجى بيت قالته عرب أبركان أيها البركاني؟
قال الشاّب : عمي لخضر حيث قال يهجو أصهاره :
داروا جمعية وهضرو فيا .... دوّاركوم يعطيه رعدّية ..،
 هذا كلّه وقع على مرأى ومسمع حليمة التي كانت متبرقعة ولم يتعرف عليها البركاني بعد، سكت النابغة قليلا وقال يوجّه كلامه إلى الحضور من الشعراء الذين قدموا من مختلف الأزمنة ، أبينكم من يفاخر هذا البركاني ببيت أو بيتين ؟ حينها نطق جرير وكان قد عاد هو الآخر من الزمن الأموي ، فقال :
أنا صاحب أغزل بيت قالته العرب حيث أقول :
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيينا قتلانا.
فقال البركاني :
بل أغزل بيت قد قيل في زماننا،حيث يقول الشاعر في محبوبته: " أصبغت شعرها ودارت ليميش  .....  المبلي بحالي كي يدير يعيش " وفجأة نطق الحطيئة دون أن يأخذ إذنا من النابغة وقال : أنا أهجى النّاس حيث قلت في زوجتي :
" أُطوّف ما أطوّف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع.."
أبينكم من هجا زوجته يا آل بركان؟ فقال البركاني بيننا شاعر هجا زوجته وحماته أيضا ولا أظنك أشعر منه حيث يقول :
" نسيبتي نسيبتي هي سباب طلاقي ... أزادتني مرتي كملات الباقي.." جلس الحطيئة وقام قيس بن الملوح (مجنون ليلى) فقال :
أنا أشعر الناس وأنا شهيد الحب، فهل قتل الحب فيكم أحدا يا آل المستقبل مثلما قتلني ؟ ،
حينها ضحك البركاني وقال نحن من قتل الحب وبهذا نكون قد ثأرنا لك أيها المجنون فاجلس لا أقامك الله ولا بعثك يا مجنون بني عامر. جلس قيس ثم قام شاعر أنشد قصيدة جميلة يرثي بها نفسه فكان مطلعها ألا لَيتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً ... بِجَنبِ الغَضا أُزجي القَلاصَ النَواجِيا، وبعد أن أتمها سأله البركاني ومن تكون يا هذا؟ قال الرجل أنا مالك بن الرّيب،حينها أخرج البركاني منديله المطرز بالأخضر وبكى بكاء كثيرا متذكرا بذلك الرايب . وبينما هو كذلك جاء رسوله من عند حليمة يبشّره أنها قبلت به، ففرح الشاب إلى درجة أنه هز كتفيه في رقصة رڭّادة محضة وأنشد قصيدة على البحر العميق مطلعها ، " مانبقاشي السيليباطير هاد العام أمّا نتزوج....نفوت أيامي معاها بيخير نعيش حياتي ونفوّج "
وبعد أن إنفردت به طلبت منه مالا لتشتري به خاتم الخطوبة، فقال يخاطبها شعرا :
ألالّة بالشوية إلا غي الخدمة راني خدّام ... ألالّة بالشوية تاحنا تزهالنا لياّم،
ثم فغرت حليمة فاها مبتسمة وقد أعجبها نظمه ، ورددت خلفه ألالّة بالشويّة ، وكأنها تستزيده من ذلك النّظم ، فقال نلبسك جديد ونركبك لحديد ولي زاد علي نزيد،فقالت حليمة وبعض ممن سمعوه: ألالة بالشوية.. فقال هو : نلبسك غي الغالي...،ونسكنك فالعلالي..، أراي تكوني ديالي،
الالّة بالشويّة..
حينها كان يزداد عدد الذين يردّدون خلفه تلك العبارة، إلى أن تحوّل سوق عكاظ بما فيه النابغة نفسه، كلّه عبارة عن (كورال) يُردّد خلف الشاب البركاني كلمة ألالة بالشوية فقال : العرس نديروه فالصّيف... القاعة نديروها للضّيف... لّي المحسادين ألاطيف..
الالة بالشويّة..
فما زال هذا يردد الشعر وجمهور عكّاظ يردّد خلفه الالة بالشويّة، إلى أن أتى على آخر القصيدة ، حينها صفّق له كل السّوق بما فيه النّابغة وأمرهم بإقامة حفل زفاف البركاني وحليمة، ثمّ أمر عنترة إبن شداد وأبو فراس الحمداني بأن يحرسوا الأبواب حتى لا يُغير عليهم عروة بن الورد والشنفرة الأزدي. وبينما هو كذلك سمع أمه تقول:  " نوض تخدم ألمعڭاز دير كيما سيادك راهوم بكْروا ... تبات وتظل ناعس وتڭولي عطيني نشري ڭارّو "


وإنتهى الحلم.

إرسال تعليق

 
Top