0
حوار سانتاكروز مع القاصة لطيفة باقا

(إن الكتابة أنقذت الإنسانية من الكثير من المجرمين)

حاورها : أحـــمد بوزيد :

لا أحد يطيق حزن العالم سوى الكتّاب، إنهم يحاولون على الدوام تشييد نقيضه ليغدو جميلاً، يلتقط كل التفاصيل و ينشغلون بأمر شخوصهم محتفظين بدهشة الأطفال، الدهشة ذاتها التي اتسم بها لقاؤنا في احدى المقاهي المطلة على الأطلنتي، في مدينة أكادير المنبعثة بالكاد من رماد الزلزال كطائر فينيقي. كاتبة غرفة فيرجينيا ووالف، وما الذي نفعله ؟ بدا المكان أليفاً بالنسبة إليها. كاتبة غير منشغلة بالعابر، مثل جراح قديم يمد يديه للعميق والبعيد التاوي. لم تكن تريد أن تبني رجل ثلج أو قصراً من الطين. اقتربنا منها لتحكي عن عوالمها وهي ترمم ذاتها بحثا عن هوية خاصة، هي الآتية من سلالة زفزاف وبورخيس في مغرب لا يعترف بالكتابة. وتنتصر للهامش كأفق إنساني آخـر.
هكذا حاورها محمد إيدسان عضو الصالون الأدبي سانتاكروز، بعدما استضافها أعضاء سانتاكروز ضيفة شرف الصالون الثاني، فكان الحوار كالآتي :

1.  سنبدأ بالسؤال البَدئي و النمطي الذي يُطرح عادةً على الكُتاب : ما حكايتك مع الكتابة ؟ هل هي مدخل للحياة ؟

لطيفة : كانت البداية صدفة حقيقة، في البداية كانت علاقتي بالتعبير الفني تتخذ شكل الرسم، التشكيل أقصد. أتذكر اليوم لقطات من مسلسل يحكي عن طه حسين، أتذكره وهو يكتب يومياته. في تلك اللحظة بالذات من الطفولة، اكتشفت الكتابة كإحتمال آخر للتعبير. بمخيلة طفلة أدركت أن الإنسان من الممكن أن يعبر عما يخالجه بواسطة كتابة اليوميات، منذ تلك الطفولة دونت يومياتي في مذكرة سوداء غلافها أسود وجلدي. ما يقع في القسم مع الأصدقاء، ما يقع في بيت العائلة ... كنتُ أحكي كل شيء حدّ الفضح أحياناً. طفلة في الخامسة عشر تكشف الأسرار. بعدها أخذت الكتابة مسارات جديدة أكثر جدية، راكمتُ قراءات عديدة ومتنوعة. وحدها القراءة تخلق القارئ والشاعر، وتخلق الكاتب. الكتابة من فراغ وهمٌ لا غير، أتذكر أيضاً مدرس لغة مالارمي وهو يطلب منا كتابة حكاية، ربما يغشاه كسلٌ ما ويود أن يرمم بنا زمن الحصة، كي تنتهي سريعاً كطفولتنا. ( تَضحك ) بعد أن دق الجرس طلب مني البقاء في المقعد الخشبي. خائفةً من المُدرس، كنتُ أبني الإفتراضات : ربما سيحاسبني على أخطاء صغيرة، حينها سمعتُ منه عبارة القصة القصيرة، إسماً لما كتبت. تلك هي الشرارة الأولى. إن الكتابة هي فسحة للتنفيس عن التوثرات، إنها ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها. يحضرني الآن ما يقوله الزجال أحمد المسيح ( لو لم أكن شاعراً لكنتُ مجرماً ) فعلاً، إن الكتابة أنقذت الإنسانية من الكثير من المجرمين. بعدها صرتُ كاتبة قصة قصيرة، نشرتُ في ملحقات ثقافية. اُطلق صوتي لأسمع بعض الصدى ثُم كانت الإنطلاقة الفعلية بعد جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب في 1992.
في الحقيقة الحكي عن الماضي يقتضي التركيز على هذه التفصيل.
2.   وقوفاُ عند العتبات الأولية، يستوقفنا العنوان ذو الإمتلاء الدلالي طبعاً، فنتساءل: لماذا فيرجينيا ووالف بالضبط ؟ ولماذا الغرفة ؟
لطيفة : الجميع يعرف أن فيرجينيا ووالف كتبت نصاً عن الغرفة الخاصة، تقول إن المرأة إن أرادت أن تكتب رواية ينبغي أن تتوفر على غرفة خاصة وقليل من المال، أي حيازة الاستقلال المادي و المعنوي. التقاطع بين كاتبة أدركت أهمية الاستقلالية في فضاء ثقافي مغاير وكاتبة في فضاء مختلف، يعني استمرارية الحاجة إلى الاستقلالية على اعتبار أن الكتابة بيد المرأة مختلفة. فالمجتمع غير مهيئ لإستقبال إمرأة كاتبة. غير مهيئ لإستقبال في الحقيقة المرأة خارج الدور البيولوجي الذي يُخول لها ثقافيا في المجتمعات الذكورية. مغامرةٌ إذن هي كتابة المرأة. إن لم نقل مخاطرة في غياب الشروط في مجتمع لا يعترف بحقوق النساء ولا بالمساواة، ويذوب المرأة داخل النسيج الاجتماعي. داخل الأسرة مثلاً لا تتوفر المرأة على فضاء خاص بها، لذلك أحيي فيرجينا ووالف على تلك الإشارة التي انتبهت إليها وأغفلتها الحركة النسائية، مقصيةً بدورها انشغالات المرأة المبدعة على وجه الخصوص.
أنا القادمة من الحركة النسائية، ومن السوسيولوجيا لم يتم يوماً أن إهتمت الرفيقات بالمرأة التي تكتب، حقهاً في الكتابة تحديداً. المجموعة إذن هي احتفاء بتلك الإشارة واستعادة لتلك الغرفة.
3.  يقودنا الحديث مباشرة إلى الحديث عن شعرية المكان عند لطيفة. كيف هي إذن علاقتك مع الأمكنة ؟
لطيفة : أنا مواطنة من هذا العالم، الهويات تخلق الانكماش والتمحور حول الذات، تضخمها لتنفي الآخر. الإرتباط بالمكان لا ينبغي أن يكون إرتباطا عاطفياً يحول دون الارتباط بالآخر. من الأمكنة التي عبرتها أجد سلا محطة من محطات السفر، وأجد أيضاً أكادير التي أحيا فيها، سلا هي المدينة التي صنعت هذا المسار الذي أعيشه.
خارج إطار ما تعنيه الأمكنة من التاريخ والوجدان والعلاقات الإنسانية، أحاول أن تكون علاقتي بالأمكنة بمنأى عن البُعد الهوياتي الذي وَلد اليوم التطرف والكراهية.
4.  كيف تم توظيف الغرفة جمالياً ؟ وماذا تعني لك الغرفة : الامتلاء والحضور والانتماء إلى الهُنا ؟ أم الوحدة والعزلة الباردة ؟
لطيفة : طبعاً، فيرجينا ووالف تخرج من الغرفة تملئ جيوبها بالحجارة لتذهب إلى النهر وتغرق. أ هذا ما تقصده ؟
5.  ( مقاطعاً ) حضور الغرفة في المجموعة القصصية له مجموعة من الدلالات، أحياناً الغرف تشعرنا بالإنتماء إلى الهُنا، إلى الحاضر. إننا نشبه اللحظة، وخارجها نُحس بالإغتراب. الغرفة إذن هي علامة نفسية تقبل التأويلات.
لطيفة : الغرفة  هي الذات، ليس الذات بمعنى الجسد و النفس والتاريخ الشخصي، الذات هي كل خارج منا، عندما يذوب الخارج ويُختزل فينا. الغرفة هي ذاتي عندما أجلس لأكتب. هو التصور ذاته الذي تقول به فيرجينا ووالف.
المكان الذي نستطيع أن ننتج داخله الرواية وأنا أوسع الأفق لأقول : الأدب.
6.  ( مقاطعاً ): حين ننخرط في العالم ننخرط بهوياتنا لتقديم إضافة جمالية لهذا العالم إنطلاقا من خصوصية الموقع.
لطيفة : طبعاً، ننتج رؤية للعالم حين نلج الغرفة ونكتب أدباً. هو نتاج تراكم يقول درويش : ( نخرج إلى العالم، نشحن بالعالم ونعود لذواتنا لنكتب ) هناك لحظات، حتمياً يجب أن نعود إلى الذات ليُخلق الأدب. بهذا المعنى امتلأت غرفتي في المجموعة.
7.  قُراءً، نلاحظ بلاغة الأمكنة في قصصك، فنُحس أحياناً بالانتماء وأحياناً بالنشاز والغربة المكانية. هل صحيح أن الأمكنة قوالب فيزيائية جاهزة تملئينها بدفقاتك الشعورية ؟ أم تمارس عليك سطوة استقلاليتها الشعورية ؟
لطيفة : طبعا للأمكنة سلطتها، ولها دورها الكبير في توجيه الشعور والكتابة. إذا كتبت داخل مكان معبئ بالذكريات والتاريخ الشخصي، فما ستتنتجه لن يشبه ما ستنتجه عن أمكنة لك الحياد معها. ولا تربطك معها علاقات وجدانية، بالموازاة للأزمنة أيضاً سلطتها،و لا نستطيع الكتابة خارج شرطي الزمن والمكان.
وعلى ذكر العتبات فالمجموعة فيها عتبات عبارة عن مقولات لفيرجينيا ووالف.
8.  ( مقاطعاً ):  هي إلتفاتة واعية إذن واختيار جمالي في الآن ذاته.
لطيفة : أجل لا بد أن أوضح وأنا أكشف عما جرى في مطبخ الكتابة، أني كتبت النصوص دون أن أعلم أن العنوان سيكون غرفة فيجرينا ووالف. وكما يحدث في الحياة كنتُ أقرأ ليلاً نصوصا لفيرجينيا ووالف لم أطلع عليها من قبل، فاكتشفت تقاطعات تماما مثلما يقع حين تجد حكاية في الثقافة الأمازيغية، تجد الحكاية ذاتها في الثقافة العربية والثقافة الأميركية وفي سينهويتس البلدة البيضاء كالثلج. تتكرر الحكاية في ثقافات مختلفة، نفس الأمر يقع في مستوى الأدب. بكلمة : العنوان ذات عتمة.
9.  الأمكنة لديك معطيات ثقافية وأسئلة أنطولوجية. الشرفة أو النافذة مثلاً تم توظيفها بشكل شاعري وفلسفي. النافذة فضاء للهروب و التحرر من قبضة الزمن ومحدودية المكان والحضور. صحيح ؟
لطيفة : فعلاً، فالعمة مثلا تهرب لرجلها من النافذة في نص من النصوص، وفي قصة قصيرة أخرى شخص مخمور يبول على العالم من الشرفة، وفي نص من النصوص لا أحد لديه الشجاعة ليسقط من النافذة، النافذة موضوعة ومادة لإشتغال الكاتب والتشكيلي، والموسيقي أيضاً، يقول جاك بريل:
"je préfère penser. Qu'une fenêtre fermée. Ça ne sert qu'à aider. Les amants à s'aimer "
العشاق حين يحبون بعضهم يغلقون النافذة، إذ تحميهم من عين الآخر، فالنافذة تمرد على الأخلاق وانفتاح على العالم.
10.  ( مقاطعاً )أتتذكر ما تقوله سكينة حبيب الله : ( بماذا تحلم البيوت حين تغمض النوافذ ؟ ) أحس أن النافذة تحصين للذات، هل يمكن أن ننفتح على الآخر دون أن نقي ذواتنا بهوية ؟
لطيفة : أحتاط من الهوية، إنها أحيانا تولد الكراهية، إن كان لابد من هوية فلتكن الهوية الانسانية.
11. ألا يعني هذا ذوبان الذات ؟
لطيفة : لا ليس بالضرورة. صحيح، يجب أن تحتفظ كل ثقافة باختلافها لكن لا يجب أن يكون الأمر إذن بالمقارنة التي تفضي إلى اعتبار الذات خيرا والآخر شرا أو جحيماً بتعبير سارتر. هذا مثلا ما آلت إليه الحركات المتطرفة، وأنا مشغولة بهذه القضايا. هذا السبب مثلاً هو الذي جعلني أنتمي لحركة ضمير. إنها القناعة بضرورة التكتل لحماية الحريات الفردية، هناك أناس مجندين خصيصاً للإلغاء، نحن يجب أن نتعايش فثمة مشتركات لكن ثمة اختلاف أيضاً.
12. بالحديث عن الهروب عند باقا، هل صحيح أنها فكرة احتجاجية ؟
لطيفة : من يكتب يجب أن يكون متمرداً، لا أفهم من يكتب ويهادن. العالم لا يعجبني ( تضحك ) يقول شكسبير هذا العالم سيستهلك نفسه حتى العدم، وهل يعجبك أنت ؟
( مُجيب ) كما يقول صديقي أحمد بوزيد في نص قصصي : العالم يحتاج للميزاجور كي يعجبني.
13.  يقول سيوران : ( أستطيع أن أرى العالم من نافذة قريتي،وذلك بحجم ما العالم لا بحجم ما أرى )، ماذا ترى لطيفة حين تُطل من النافذة ؟
لطيفة : أرى المقهى قبالة البيت، أرى الأشياء، أرى الناس ( تتذكر ) أرى امرأة دوما في الخامسة والنصف مساءاً، ترتدي شالا أبيض وقبعة تدفع عربة بتؤدة، تبيع الحساء، وتعود أدراجها في السابعة والنصف مساءاً. امرأة يشغلني صمتها، كتبت عنها. أتخيل ما تفكر فيه، أتساءل : بماذا تحس مثلاً ؟ إن النافذة تمنحك فعلاً عوالم للرؤية.
14.       مشاكلة الموت وجدليتها مع الحياة تُذكرني بمقولة للراحل زفزاف وهو يصف مليكة مستظرف "أنت تحملين موتكِ معكِ" هل تحمل لطيفة الموت في كتاباتها ؟ هل تؤمنين أن الموت هو المدخل الوحيد للظفر بقيمة وعمق الحياة ؟
لا، أنا مع الحياة، مع الضحك.
15.    الكتابة، أليست محاولة لتجريب الموت إذن ؟
لطيفة : هي محاولة للعيش، الكتابة تدعك تستمر، تتحمل بواسطتها العالم، تضفي المعنى على الوجود.
16.               احدى شخوصك عاهرة،وتقدمينها للقارئ كنموذج ممتلئ بالإنسانية. هل هذا تواطؤ ضد الرقابة والقراءة الثقافية للقارئ ؟ أم محاولة لخلخلة البنى السيكولوجية والثقافية للقارئ ؟
لطيفة : عموماً العاهرة، إنسان مفعم بالإنسانية، أعرف عاهرات، أجالسهن وأجدهن أكثر الكائنات إنسانية من اللواتي يتموقعن في المؤسسات. إني أوظف العاهرة بإعتبارها فضحاً للمجتمع.
سوسيولوجياً هي متنفس مهم جداً لتحقيق السلم الاجتماعي والتوازن. لأن المنظومة الذكورية التي ننتمي إليها للأسف، تعاني من عقدة الجنس، لا يسمحون بعلاقة جنسية خارج المؤسسات، ولأني أكتب عن الهامش، أكتب عن العاهرة. لأن شخوص هذا الفضاء تثيرني، تثيرني الكائنات الحقيقية، أكثر من الكائنات التي تتصنع وتفتعل أدوراً سرعان ما تتقمصها. 

إرسال تعليق

 
Top