القيّمة على الذاكرة
التاريخ الشفهي للبيلاروسية الحائزة على جائزة نوبل للآداب
مجلة نيويوركر
أجرى اللقاء: جيسن ماشا
The Memory Keeper
The oral histories of Belarus’s new Nobel
laureate
The NewYorker
By: Masha Gessen
" رجاءً أحضري للسيدة الجالسة هنا كوباً من الشاي الأخضر،
فقد نالت مؤخراً جائزة نوبل."
لدى
سماعها الطلب أومأت النادلة باحترام مشيرةً إلى مجموعة الكتب المصفوفة على الطاولة
لتؤكد معرفتها بصاحبة المناسبة.
كانت
سفيتلانا أليكسيفيتش البالغة من العمر ٦٧ عاماً جالسةً على طاولة تضم عشر أشخاص من
أصدقائها وعدد من الناشرين أمام مطعمٍ من مطاعم برلين. هي
بالكاد يتجاوز طول قامتها خمس أقدام وجسدها ممتلئ بعض الشيء. شعرها القصير الذي يصل كتفيها مصبوغ بلون مائل إلى
الإحمرار أغمق بدرجة من اللون البني الذي اعتدنا عليه.
كانت
قد قدمت التو من مؤتمرها الصحفي الذي عقدته بمناسبة استلامها جائزة نوبل للآداب
حيث قضت معظم وقتها في الإجابة عن أسئلة الصحفيين فيما يخص سياسة روسيا وبيلاروسيا
. وبسبب إغلاق الطرق نتيجة المظاهرات القائمة ضد اتفاقية
التجارة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية فقد اضطرت للمشي عدة
قطع سكنية في أجواءٍ شديدة البرودة حتى تصل المطعم وتنضم لأصدقائها قبل أن أستهل
لقائي معها.
*
لدى
إعلان سارة داينوس السكرتيرة الدائمة للأكاديمية السويدية حصول أليكسيفيتش على
جائزة نوبل ، عزت إليها الفضل في إنشاء نوعٍ أدبيٍّ جديد أسمته : "تاريخ العاطفة ، تاريخ الروح"
وجائزة
نوبل للآداب لعام ٢٠١٥ هي الأولى من نوعها التي تمنح لكاتب لم يتعامل إلاّ مع
أناسٍ حقيقيين في أعماله. فكتب أليكسيفيتش
تتناول الأزمات التاريخية ( الحرب العالمية
الثانية ـ الحرب السوفيتية في أفغانستان ـ كارثة المفاعل النووي
في تشرنوبل وانهيار الاتحاد السوفيتي) وذلك من خلال أصوات
أناسٍ عاديين عاشوا واقع تلك الأزمات. فالتاريخ الشفهي الذي
نقرأه في كتبها هو مجرّدٌ من كل الإضافات اللغوية والدرامية ، ما نقرأه هي الحقيقة
عارية تماماً تمتحن فيها أليكسيفيتش قدرة القارئ على احتمال الألم ومدى سرعة تقبله
لتصديق الحقيقة التي هي أغرب من الخيال والماثلة بين يديه.
مؤلفات
أليكسيفيتش هي مكتوبة باللغة الروسية وتم ترجمتها إلى عدة لغات ونشرها في مختلف
أنحاء العالم ( مع ملاحظة أن أياً من أعمالها لم يتم حتى الآن ترجمتها
إلى اللغة العربية ) ، لكن غالباً تم نشرها عبر دور نشر صغيرة . فمثلاً كتابها " أصوات
من تشرنوبل " تم إصداره عن طريق دار نشر صغيرة غير ربحية:
Dalkey Archive Press
هي
حصلت على عدة جوائز سابقاً ، لكن أهم جائزة حصلت عليها قبيل فوزها بجائزة نوبل هي
جائزة:
The French Prix Medicis
Essai
وهي
تمنح للكتاب الذين لم ترتق شهرتهم العالمية بعد لمستوى كتابتهم وموهبتهم.
وتعد
أليكسيفيتش الكاتبة الأولى التي تفوز بجائزة نوبل على كتب مبنية حصراً على
المقابلات مما دعا بعض الصحف إلى مدح منظمي الجائزة للاعتراف بالصحفيين ككتّاب وهو
ما رفضته أليكسيفيتش تماماً . فهي لا تعد نفسها
صحفية " بل كاتبة تستعين بأدوات صحفية.”
*
في بداية كتابها " أصوات
من تشرنوبل " والذي نشر في روسيا عام ١٩٩٧ ، تصف امرأة شابة حالها وهي
ترقب زوجها رجل الأطفاء يموت ببطء جراء التسمم الإشعاعي.
" في المشرحة سألوني: أتودين
رؤية الملابس التي سنكسو بها جثمان زوجك ؟ نعم بالتأكيد ! لقد
ألبسوه زيه الرسمي كاملاً مع قبعة الإطفاء، لكن لم يتمكنوا من وضع فردتي حذائه لأن
قدميه قد تورمتا. حتى زيه الرسمي اضطروا لقطع أجزاءٍ منه لأنهم عجزوا عن
إدخال جسده كاملا به. لم يكن هناك من جسد ، بل كتلة من الجروح.
في اليومين الأخيرين لنا في المستشفى كنت أرفع ذراعه
فإذا بالعظم يتدلى بعد أن ذاب عنه اللحم. كان يتقيأ قطعاً من
رئتيه وكبده. وكلما كان يختنق بكتل اللحم الذائبة عن أعضائه الداخلية
، كنت ألف يدي بالضماد وأقحمها في فمه لأستخرج القطع من حلقه.
من المستحيل أن أتكلم عن مشاعري تلك اللحظة.
من المستحيل أن أكتب عن مشاعري تلك اللحظة.
ومن المستحيل أن أتجاوز في حياتي تلك اللحظة.
كل قطع اللحم في كفي
هي ملكي أنا . هي حبيبي أنا.
لا ، لم يعثروا على
حذاءٍ يناسب قدميه المتورمتين ، فدفنوه حافياً.”
*
وُلدت أليكسيفيتش في أوكرانيا بعد انتهاء الحرب العالمية
الثانية بثلاثة أعوام ، وفي سن صغيرة انتقلت مع عائلتها ووالديها المدرسين إلى
الريف في بيلاروسيا حيث عاشت العائلة حياة بسيطة بالكاد تفي باحتياجاتهم الأساسية. ولبيلاروسيا تاريخها المؤلم مع الحرب حيث أباد النازيون
اليهود والغجر والسلوفاك حرقاً . قرى كاملة حرقتها
نيران الحرب وساوتها بالتراب. وأهم
ما تذكره أليكسيفيتش عن طفولتها هو اجتماع نساء القرية في المساء وتبادل قصصهن عن
تجاربهن في الحرب العالمية الثانية. ودائماً ما كنَّ
النساء هن مصدر الحكايات لأن معظم الرجال قد قضوا نحبهم في الحرب، أما القلة
الناجية فمعظهم يقضي يومه مخموراً.
لذلك حين بدأت أليكسيفيتش مشوارها الأدبي في الكتابة أول
ما سعت إليه هو التخلص من وساطة المؤلف وصوته ومن كل الأطر الدرامية والزمنية التي
يبنيها في عمله. هي سعت من خلال عملها أن تعيد تلك التجربة من طفولتها
حين كانت تستمع للحكايات من أصوات أصحابها مباشرةً دون وسيط.
وحين بدأت تجمع مادتها الأولية لكتابها بحثت أليكسيفيتش
عن نساء لهن ذات نوع التجارب التي سمعتها في طفولتها. وفي
لقاءاتها مع مجموعة نساء انخرطن في الجيش زمن الحرب أكدت لهن :
" لا
أريد أن أعرف عدد القتلى الذين ماتوا على أيديكن ، ولا كيف قُتلوا على أيديكن. ما يهمني هو معرفة مشاعركن وعاطفتكن تجاه تلك التجربة."
وقد اكتشفت أليكسيفيتش أثناء تجربتها تلك أن التركيز على
النساء في مقابلاتها كان قراراً حكيماً.
"فالنساء يحكين تجاربهن بأسلوب أكثر إثارة للاهتمام وبعاطفة
أعمق ناتجة عن تواصلهن أكثر مع حقيقة مشاعرهن وحياتهن. أما
الرجال فقصص الحرب بالنسبة لهم هي مثار فخر واعتزاز ، ويهمهم أكثر الحديث ضمن
الإطار الزمني والسياسي لتجاربهم.”
*
الكتاب الذي صدر بناءً على تلك المقابلات يحمل عنوان " الحرب ليس لها وجه امرأة " والذي
نشر عام ١٩٨٤. والكتاب عبارة عن مونولوجات للنسوة اللاتي قابلتهن
وذكرياتهن عن الأوضاع الدموية والمأساوية التي شهدنها شخصياً أيام الحرب.
وفي عملها اللاحق لعملها الأول ، ارتكزت مقابلاتها على
من ينتمي للجيل الذي عاش طفولته إبان الحرب العالمية الثانية ، والذي حمل عنوان " آخر الشهود " وبسبب
اعتماد السياسة السوفيتية على البرباغندا وتمجيد الحرب ، فقد اكتسبت أعمال
أليكسيفيتش والنوع الأدبي الذي اعتمدت فيه على الذاكرة الشخصية للأجيال أهمية كبرى
وتحدياً للإعلام السوفيتي.
*
" أولاد الزنك " هو
كتابها الذي اعتمد على أصوات الجنود السوفييت الذين شاركوا في حرب افغانستان ،
واعتمد كذلك على أصوات أمهاتهم وأراملهم. نشر الكتاب عام ١٩٨٩
في ذات السنة التي انسحب فيها الجيش السوفيتي من أفغانستان . واستوحت أليكسيفيتش عنوان الكتاب من حقيقة مؤلمة وهي
إرسال الجيش السوفيتي لجثامين جنوده إلى وطنهم وأهلهم في توابيت مصنوعة من الزنك
والصفيح دون أي اعترافٍ رسمي بهم أو احتفاءٍ يليق بهم.
وقد حطّمت أليكسيفيتش بكتابها أسطورة الجيش السوفيتي
العظيم. فالجنود في كتابها هم شبابٌ خائفون ، مرتبكون ، فقراء ومذلون.
" كانت تلك هي المرة الأولى التي أعاصرُ فيها حرباً ، وقد
ارتعبت مما شهدته. قصص كل هؤلاء الأموات ، الجندي الذي يقتل إنساناً آخر
لينتقل بعدها مباشرة إلى شرب الفودكا والضحك والبيع والإقراض. كانت تلك هي المرحلة السوفيتية بكل ما حملته من فقر
وحرمان لهؤلاء الشباب، ولأنهم رغبوا في إهداء أمهاتهم هدايا يحضرونها معهم من ساحة
المعركة فقد اضطروا لبيع رصاصات أسلحتهم لتأمين ثمن مشترياتهم ، وتلك الرصاصات
ذاتها هي التي أودت بحياتهم تالي نهار على يد أعدائهم.”
*
مع بداية عملها عام ١٩٨٠، أدركت أليكسيفيتش أن تدوين
مقابلاتها باليد هو عملٌ غير مجد. فقد كان من الضروري
لها أن تحفظ كل كلمة ينطقها الشخص الذي تقابله، ليس هذا فحسب ، بل حتى الفواصل
الصامتة بين الكلمات كانت تحمل ذات الأهمية لها.
" حين يتحدث الشخص من الضروري أن تلتفت إلى ترتيب الكلمات
في كل جملة يقولها ، فحتى الترتيب يكمن وراؤه معنى."
في تلك الأيام كان سعر مسجلة الصوت خمسمئة روبل أي ما
يعادل راتب ثلاثة أشهر. فما كان من أليكسيفيتش
إلا أن اقترضت المبلغ من أساتذتها وزملائها الكُتّاب. وبالفعل
اشترت المسجلة ومنذ ذاك الوقت هي تتبع الأسلوب ذاته في عملها.
هي أولاً تسجل المقابلة ثم تفرغ محتوى الأشرطة. النص الذي تكتبه تقرؤه عالياً لنفسها لتتأكد من مطابقته
لما سمعته. كل كتابٍ أصدرته استغرق منها خمس إلى عشر سنوات ،
والمقابلات للكتاب الواحد تصل في معدلها من ٣٠٠ إلى ٥٠٠ مقابلة. ومن تلك المقابلات تختار من عشرة إلى عشرين شخصاً
تعتبرهم "أعمدة" كتابها
والواحد فيهم تقابله ما لايقل عن عشرين مرة.
. "كأنك ترسم لوحةً شخصية، تعاود زيارة موضوع لوحتك مراراً
وتكراراً وفي كل مرة وبضربةٍ صغيرة من فرشاتك تضف تفصيلاً جديداً .”
*
تعتبر أليكسيفيتش عملها " أصوات
من تشرنوبل " من أسهل أعمالها التي كتبتها لأن الحدث لم يسبق له أن
وقع من قبل " ولهذا السبب لم يعرف الناس بعد كيف تتعامل معه وتخفي
مشاعرها اتجاهه، وكذلك إعلام البروباغندا لم يعرف كيف يخفيه."
هي بدأت العمل على الكتاب مباشرةً بعد وقوع كارثة
المفاعل النووي عام ١٩٨٦ ولذلك فالأحاسيس والعواطف التي سجلتها كانت حقيقية تماماً
وعارية عن أي تزييف.
" أدركتُ حينها أنّ عليّ أن أسابق التاريخ
في تسجيل حقيقة الوضع قبل أن يتم الالتفاف عليه، لهذا ما همّني الإطار السياسي
للكارثة ، بل سعيتُ نحو تدوين تلك اللحظة المؤلمة من الزمن وذاكرة الإنسان الذي
عاشها."
وكما حرصت أليكسيفيتش على حفظ الحقيقة ، هي كذلك حرصت
على الحفاظ على خصوصية الأشخاص الذين قابلتهم. إحدى
السيدات التي التقت بهن في كتابها أصوات من تشرنوبل حين رأت أن اسماً مستعاراً
استخدم في عرض قصتها ، اتصلت بها وطالبتها بالإعلان عن إسمها الحقيقي " لقد عانيتُ أنا وزوجي بما فيه الكفاية، ونستحق أن تذكر
الحقيقة كاملةً ومن ضمنها أسماؤنا الحقيقية." لكن
أليكسيفيتش لم تستجب لطلبها هي والعديد من الأشخاص الذين شاركوا تلك المرأة رغبتهم
في الإعلان عن أسمائهم. " ما
كنتُ أبداً لأسمح لهم بالتعرض للخطر، فالجماهير تقبل العمل الفني ، لكنها تمزق
الأفراد وراء العمل الفني.”
*
لا تزال أليكسيفيتش تتواصل مع عدد كبير من الأشخاص الذين
قابلتهم ، وحتى يومنا هذا ، في كل مرة تتواصل فيها مع واحدٍ منهم تعرف عنه قصة
جديدة تنسف معرفتها السابقة بالوضع. لهذا السبب فهي حريصة
على إضافة تلك التفاصيل الجديدة مع كل طبعة جديدة تصدر عن أعمالها. فكما تقول هي:
" في النهاية ما هو الإنسان؟ معرفتكَ به تعتمدُ على مزاجه
، على هوية أصدقائه ، على الكتب التي قرأها ، على اختيارك للوقت الذي زرته به سواء
كان صباحاً أم مساءً. كل عامل من تلك العوامل يلعبُ دوراً كبيراً في الاتجاه
الذي تسير عليه المقابلة. وأنا مدركة أننا لن
نعرف أبداً الحقيقة كما هي لكن لكَ أن تعرفَ أساسها. وبالنسبة للحقيقة التي رأيتها في الأشخاص الذين قابلتهم
فأساسُها الألم. الواحدُ فيهم يقول لي: لقد
حمّلتكِ ألمي. لقد نقلت إليك ألمي. المقابلة
بالنسبة لهم ما هي إلا المنفذ والخلاص الذي لهم أن يتخلصوا معه من ثقل آلامهم التي
يحملونها.”
*
في نهاية اللقاء تختم أليكسيفيتش حديثها باختياراتها
كقارئة. فهي لم تعد تطيق قراءة الروايات ، حتى تلك التي أحبتها
سابقاً في شبابها لتولستوي. فقصص الناس التي
سمعتها وسجلتها تتجاوز كل حدود الخيال والعاطفة التي لن تصل إليها أي رواية. لذلك فهي حصرت قائمة الكتب التي تقرأها بالكتب غير
الروائية.
أما ما يخص عملها ككاتبة فهي تؤكد أنَّ كل ما يحتاجه
الكاتب لإنجاز عمله هما أمران لا ثالثَ لهما:
الوقت والعزلة.
وهنا ختمت لقاءنا بالجملة الأخيرة:
"وقد حان الوقت لأعاود العمل.”
*
هذا المقال هو تلخيص للمقال الأصلي الذي نشرته مجلة
نيويوركر في عددها الصادر في السادس والعشرين من أكتوبر عام ٢٠١٥.
وللاطلاع على المقال كاملاً باللغة الانجليزية على موقع
مجلة نيويوركر الضغط على الرابط التالي:
http://www.newyorker.com/magazine/2015/10/26/the-memory-keeper