0


تسير وحدها على درب حجر طويل، دعن أصف لك المشهد كاملا: سماء غائمة، أشجار صنوبر وارفة تحد الجانبين، تحكم الفتاة لف وشاحها حول عنقها ثم تسحب سماعتي اذنها، تضبط هاتفها على إذاعة اجنبية تبث معزوفات كلاسيكية طوال اليوم. كل هذا دون أن تتوقف عن المشي والإبتسام الأبله في وجه لفحات البرد و الصنوبر.
تبدو الحياة جميلة. أعني، المشهد كله يبدو خارجا من رواية قد كتبت نهايتها سلفا. دعن أخبرك عن كتابة نهاية الروايات، إنها الأصعب ! إنك لتخلق كل هذه الشخصيات فتمنحها أسماء وتلبسها وشاحا أو معطفا ثن تحملها من عنقها و ترميها داخل دوامة أحداث طويلة. بين قضبان سجن، او جدران غرفة ضيقة بثقب على الحائط أو على درب حجري طويل. ومع حلول النهاية لا تعرف تماما ماذا تفعل بها. أتتملص منها في آخر ورقة وتتركها عرضة للتلف؟ ربما لهذا السبب وجدت ثنائيات وثلاثيات الكتب.. ربما لأن كاتبها اعتاد رفقة شخوصه ولم يستطع التملص منهم بسهولة.
ولهذا السبب نفسه، تسير الفتاة على الدرب الحجري الطويل وهي تستمع للموسيقى الكلاسيكية المجهولة الأصل منذ ما يقارب السنة. ومهما كانت النهاية، إعداما أم انتحارا لو نزهة في طريق جانب ذات يوم غائم، كتابة النهاية هي دائما الأصعب.
الفتاة التي تسير دون أن تسرع ودون أن تتباطئ تكاد تبتسم للحصى الصغير الذي يعترضها، تصل الى مفترق طرق معبد، إن منظر قدميها وسط الطريق الفارغة يوحي بالغرابة، خطوات متتابعة، تك تك تك..
رأسي سينفجر، لقد شاهدتها وهي تقطع هذا الطريق آلاف المرات، صوت الخطوات الرصينة يقتلني، يدفعني الى حافة الجنون. سأمزق الأوراق كلها وأمضغ رأس القلم حتى ينفجر مداده، سأقطع شراييني، سأشرب علبة المسكنات، سأهرب الى بيت آخر، الى مدينة أخرى بعيدا عن التك تك تك هاته.
تتصاعد الموسيقى، نفير الابواق ، أوتار الكمان الحادة تقطع شراييني و ضربات الطبول تتسارع في أوردتي.
لو أن سيارة ضربتها الآن، لو أن سيارة جاءت من عمق العدم أو حملتها يد القدر إلى مفترق الطرق هذا. كانت لتكون نهاية ميلودرامية تليق بهذه المعزوفة وكانت لتخلصني من عذابي، من سجني.كن الموسيقى خفتت إلى سوناتا هادئة و رتيبة..
تك تك تك.. تعبر الفتاة الطريق. يعبث الريح بخصلات شعرها، تحكم لف الوشاح وهي تبتسم في وجه لفحات البرد والصنوبر. وتستمر في المشي على أثير إذاعتها المفضلة الى الابد.

إرسال تعليق

 
Top